مهرجان النجمة المحمدية الولائي الثقافي الرابع عشر
الجلسة الثالثة
1. محاضرة الأستاذ الدكتور ندرة اليازجي
السيدة زينب – حضورها في التاريخ








السلام عليكم
محبتي واحترامي لكم جميعاً
شكري وامتناني لصديقي وأخي الدكتور عصام عباس الذي
هيأ لي الفرصة الرائعة لحمل رسالة اعتماد تسمح لي بالولوج إلى نطاق روحي وإنساني
سام ٍ .
أود قبل أن أتحدث عن شخصية امرأة
هامة وعظيمة تتجاوز حرفية التأريخ المعبر عنه بأحداث التاريخ المعلنة والمبلغة،
وتتميز بحضور إنساني واجتماعي وروحي يرفعنا إلى المستوى اللائق بسمو رمزية وجودها
وعمق السر الذي يشير إلى حقيقة تتسامى على الواقع المعاش، أن أتمثل عالم المثل الذي
تحدث عنه الحكماء من أمثال أفلاطون والمثالية التي يدعو
إليها أصحاب المبادئ ويحيونها في واقع وجودهم الأرضي.
أولا ـ المثال:
أدركت وأنا أتأمل بملء وعيي
وبصيرتي عالم المثل، أن أحدس الحقيقة الكونية أو الوعي الكوني أو الحكمة السامية
التي تدعوني إلى تطبيقها في عالمنا، عالم الظل أو الطيف. هذا، لأنني مدعو إلى تحقيق
عالم المبادئ المثالية والروحية في عالم الأرض، والحق أن الظلال والأطياف التي
ترتسم على جدار الكهف، الذي أعيش فيه وأنا مكبل بقيود وإشراطات عديدة تحول دون
قدرتي على رؤية مصدر النور، لا تنتهي ما لم أكن قادرا
على التحرر من تلك القيود والخلاص من تلك الإشراطات، لألتفت إلى مدخل الكهف وأشاهد
ضياء ووضوح النور الذي ارتسمت صور وأشكال الوجود على الجدار واعتبرتها حقيقية. وإذ
أشاهد هذا النور وأعاين حقيقة المثال، أتحرر من الوهم الذي أشرطني وقيدني وجعلني
أحل الجهل محل المعرفة، والوهم محل الحقيقة، والظلام محل النور، والواقع محل
المثال. وفي تحرري وانعتاقي أتجاوز واقعية الوهم وأحيا مثالية الحقيقة التي تشير
إلى الحياة في النور الذي يتألق في داخلي. وإذا كان عالم الواقع الأرضي، وهو عالم
الظل، يمثل الوجود كما هو معين ومعطى، فلا بد وأن تكون المثالية اللامتعينة تعبيرا
عن الوجود كما يجب أن يكون. وهكذا، يتمثل الواقع في الوجود وتتمثل المثالية في
الوجوب. وفي هذا المنظور، يتمثل واجب الإنسان، وهو يحيا وجوده الأرضي، في تحقيق
عالم المثال في عالم الواقع، أي في عالم الطيف والظل، وذلك لكي لا يكون ضحية الوهم
والضلال.
أسمح لنفسي، وأنا أتحدث عن عالم
المثال وعالم الظل، أن أتحدث بالمقابل، عن عالم المبادئ الروحية التي تدعونا إلى
تطبيقها في عالم الأرض في سبيل الانعتاق والتحرر من الإشراطات الكثيرة التي ترتسم
على جدار مخيلتنا لتشكل الوهم الكبير الذي يهيمن على عقولنا لتبقى محتجزة داخل هذه
الإشراطات. وفي هذا الانعتاق أو التحرر، يحقق الإنسان، رجلا كان أم امرأة، الغاية
السامية من وجوده، ويحيا روحانية وجوده، ويحدث تأليفا توحيديا بين عالم السماء
وعالم الأرض.
في هذا التأليف التوحيدي، عاينت
شخصية الإنسان الروحي، الإنسان المحب، المسالم، المضحي، العارف، الواعي الذي يقدم
مواهبه العقلية والروحية إلى الإنسانية جمعاء. وفي هذه المثالية الروحية، شاهدت
وفهمت الحياة الروحية والاجتماعية والمثالية التي وضعتها السيدة زينب موضع التنفيذ
في عالم الواقع الذي شاءت أن ترفعه وتسمو به إلى عالم المثال والمبدأ، وسعت إلى رفع
عالم الوجود إلى عالم الوجوب وعالم الأرض إلى عالم السماء. وفي هذا السمو، أصبح
العالمان عالما واحدا وحضورا يشير إلى توحيد تأليفي لثنائية ظاهرية.
إذ بلغت هذا المستوى من تأمل
مبادئ كل شخصية تهدف إلى تحقيق مثالية وجودها، علمت أن إنسان المبدأ، إنسان الروح،
إنسان المثالية السامية، إنسان الإيمان بديمومة الحياة، الإنسان المستنير بنور
الروح، كائن يحمل العالم في قلبه وعقله ووجدانه، ويسعى جاهدا لتجاوز الصعوبات التي
تعترضه، ويحتمل أن تكون مؤلمة ومضنية. أقول هذا وأنا أعلم أن الصعوبات المعترضة
يحتمل أن تتفاقم وتزداد بازدياد سمو المبادئ الراسخة في عمق الإنسان الروحي أو
المثالي الذي يبغي، وهو يتألم، الخلاص للعالم والإنسانية من السلب المجسد بالجهل
الملازم للشر الذي يطيح بإيجابية المغزى المضمون في الحياة الأرضية التي هي تربتنا
الصالحة لزرع بذور الروح الممثلة بالإصلاح. وهكذا يضحي إنسان المبدأ وهو يتألم ألما
إيجابيا في عمقه. إنه يدرك الصعوبة التي تعترضه وهو في طريقه إلى تطبيق المبادئ
الروحية السامية، ويعلم أن تحقيق هذه المبادئ الروحية يتلازم مع الألم الذي يجتاح
قلبه النقي وهو يرى التعاسة التي تسيطر على حياة الناس، والشقاء الذي تئن البشرية
من شدة وطأته، والكراهية التي تؤدي إلى الصراع والصدام والتدمير، والتعصب الناتج عن
سوء الفهم الذي يعمي البصيرة ويعزز صلابة مركزية الأنا، والجهل الذي يقاوم المعرفة.
أدركت، وأنا أتأمل بعمق بصيرتي
وتعقلي، أن إنسان المبدأ يتألم ألما إيجابيا في داخله. وفي هذا الإدراك، فهمت
المغزى الكامن في العبارة التالية التي تشير إلى حقيقة المتألم في سبيل خلاص العالم
وإنقاذه من السلب: إن الإنسان، الذي يحيا حقيقة وجوده، يتألم ويضحي في سبيل تحرير
البشرية وخلاصها من معاناتها، والحق أن الألم الإيجابي يتحول إلى غبطة في اللحظة
التي يدرك الإنسان الروحي أن ألمه المرافق لتضحيته قد تمثل بمحبة فائقة للبشرية دون
تمييز بين الأعراق والأجناس والألوان وبين تعدد الفئات العقائدية والمذهبية.
في هذا الألم الإيجابي، عاينت
قوة الروح التي تميزت بها السيدة زينب. علمت أن ما يدعوه الناس بالمأساة ليس، في
نظرها، أكثر من مجرد تعبير لم يلق بها في أحضان الاغتراب والإحباط، ولم يكن للألم
السلبي، القائم في الكراهية والحقد والانتقام، موضع في كيانها. فهي لم تدع إلى
افتعال صراع أو صدام يؤدي إلى اندحار واحتضار الحضارة الإنسانية التي لا تتألق إلا
بنور المبادئ الروحية. وعلى غير ذلك، تمثل ألم غبطتها الروحية في تنشيط فعاليتها
التائقة للخلاص ومحبتها وعنايتها بالآخرين، وإرشادهم وتوجيههم إلى اعتناق المبادئ
الروحية التي هي النطاق اللائق بمحبة الإنسان للإنسان. لقد أدركت، عبر تربيتها
الإنسانية والروحية، عظمة الحقيقة التالية:
أ ـ أنبل الناس أكثرهم محبة
للإنسانية وأكثرهم ألما لمآسي الإنسانية والمعاناة الناتجة عن أنانية الإنسان.
ب ـ أنبل الناس شعورا وأكثرهم
محبة وألما، أكثرهم تضحية.
ثانيا ـ عظمة المرأة – المبدأ
الأنثوي للوجود:
عندما أتحدث عن حقيقة امرأة
عظيمة، أجد نفسي أتحدث عن الوحدة الجوهرية الماثلة في كيان الإنسان. ولما كان الرجل
إنسانا، وكانت المرأة إنسانا، وليست إنسانة، فإن القضية تدرك في صميم جوهر وحدة
الكيان الإنساني وفي ثنائيته الظاهرية المرموز إليها بالقطبية البشرية: الرجل
والمرأة. وهكذا، أعلم أن الرجل والمرأة كيان واحد، يتكاملان على مستوى كوكب الأرض
ضمن ثنائية أو ضمن قطبين متقابلين وغير متناقضين. وبالتالي، أقول: يتكامل الرجل
الواعي والمرأة الواعية في جوهر كيانهما. وفي تكامل هذين القطبين المتقابلين
وتساويهما الجوهري في كيان واحد هو الإنسان، يحقق كل منهما القطب الذي يمثله، وذلك
لكي تعود الثنائية الظاهرية، ثنائية الرجل والمرأة، إلى الوحدة البدئية، الأساسية
والجوهرية التي هيأت تجسد الروح في عالم الحياة المادية بعد وجود الثنائية. وهكذا،
لا تعتبر روح المرأة أنثوية أو روح الرجل ذكرية. وبالتالي، نستطيع أن نعتبر الروح
كيانا واحدا.
عندما نتعمق في فهم المبادئ
العلمية والكونية والروحية، ندرك أن كل ما هو موجود في الرجل موجود أيضا في المرأة
باختلاف النسبة، وكل ما هو موجود في المرأة موجود أيضا في الرجل باختلاف النسبة.
هكذا نعلم أن كيان الإنسان جوهر
واحد، يتكامل في ثنائية وقطبية الرجل والمرأة كتكامل وتفاعل القطب الشمالي والقطب
الجنوبي. والحق أن هذا المقولة تشير إلى أن الرجل لم يسبق المرأة في الوجود الأرضي.
لذا، لا تتضمن كلمة آدم معنى الرجل بقدر ما تعني الجنس البشري، أي الإنسان الواحد
في كل زمان ومكان. ولمّا كان الجنس البشري ، منذ نشأته ذكرا أو أنثى، فيمكننا أن
نقول: الرجل آدم والمرأة آدم؛ الرجل إنسان والمرأة إنسان، وليست إنسانة. وبالتالي،
نرى أن صفة الآدمية تضفى على الرجل بمقدار ما تضفى على المرأة. لذا، نقول: رجل آدمي
وامرأة آدمية. وبقولنا هذا نعني رجلا يحقق إنسانيته وروحانيته وامرأة تحقق
إنسانيتها وروحانيتها. هكذا يتكامل كيان الرجل وكيان المرأة في الإنسان الواحد دون
أن يكون لأحدهما أسبقية أو أفضلية على الآخر.
يؤسفني أن أقول: يشير الخلل
الحاصل في هذه المساواة الجوهرية والقول بأسبقية أو بأفضلية الرجل على المرأة إلى
سيطرة عقيدة الذكورة المجسدة بأنانية الرجل وهيمنته. والحق أن المبدأ الأنثوي يشير
إلى أنثوية الوجود، بمعنى أن الوجود-الأنثى يحتوي الكل ويحمله وأن الذكورة مجرد
حركة تحرض الأنثى للفعالية باتجاه العطاء والاحتضان وحمل الوجود إلى الفعل. لذا،
كانت الأنثى-المرأة حلقة الصلة بين عالم الروح وعالم المادة؛ إنها تحمل الروح في
أحشائها لكي تتجسد في عالم الأرض. وهكذا، يمكننا أن نقول: المرأة الأنثى هي الأم
الكبرى التي تحمل الطاقة الروحية اللامتعينة لتصير إلى وجود واقعي متعين. ويتماثل
هذا المبدأ مع المقولة التي تعترف بأمومة الأرض.
في هذه المساواة الجوهرية، وفي
كون المرأة المبدأ الأنثوي الذي يحمل الوجود ويحتويه، وكون هذه المرأة-الأنثى الأم
الكبرى، وكون هذه الأم الكبرى أما للرجل والمرأة سواء بسواء، وكون الرجل نتاجا
للمرأة إذ لولاها لما وجد، تكمن عظمة المرأة وتفوقها على الرجل أو مساواتها به في
الأدنى. والحق أن جميع المبادئ أنثوية في جوهرها: الحقيقة مبدأ أنثوي، الحكمة مبدأ
أنثوي، السكينة مبدأ أنثوي.
إذ أتأمل حياة كل امرأة تحقق
عظمة وجودها وكيانها، وأخص السيدة زينب التي تمثل، في لقائنا هذا، المبدأ الأنثوي
أو الشخصية التي يتحقق فيها سمو المرأة عبر مستوياتها العديدة، الروحية منها
والثقافية والاجتماعية والإنسانية، أعلم كل العلم، وأتأكد كل التأكيد أن مثالية
المرأة أو روحانيتها كفيلة برفعها إلى المستوى الأعلى الذي تسنمته المرأة الأولى،
المدعوة حواء، قبل سيطرة عقيدة الذكورة. وإذا شئنا أن نتحدث عن مثيلات للسيدة زينب
وجدنا في المرأة القديسة جاندارك الجانب الفاعل في شخصيتها ضمن نطاق المفهوم القومي
والاجتماعي والروحي، وفي الأم القديسة تريزا مفهوم المحبة التي شملت المعوزين
والفقراء والمظلومين الذين وجدوا فيها الملجأ الذي يحميهم ويقدم لهم لقمة العيش
وقوت الحياة. لقد جمعت السيدة زينب في كيانها كلا من جاندارك التي سعت إلى تحرير
شعبها وأمتها من هيمنة المتسلطين، والأم تريزا التي كرست حياتها وهي تضحي بنفسها في
سبيل إعالة وخلاص المتعبين وثقيلي الأحمال من الفاقة والبؤس. لقد ألفت السيدة زينب
بينهما ووحدتهما في شخصيتها المتوازنة التي تتميز بالواقعية والمثالية.
في دفاع مبدئي ومثالي وواقعي عن
المرأة، وبخاصة إن كانت عظيمة، تدفعني حماستي وجرأتي الأدبية إلى الاعتراف بأن وقوف
المرأة خلف كل رجل عظيم قضية لا تلقى القبول في مقولات المنطق المتماسك في أحكامه
ما لم نضع صياغة جديدة لهذه المعادلة، في حدها الأدنى، على النحو التالي: خلف كل
رجل عظيم تقف امرأة عظيمة. وهكذا، تتميز المرأة بعظمة تتساوى، في قيمتها وجوهرها،
مع عظمة الرجل. وعلاوة على ذلك، أسمح لنفسي أن أقول: إن المرأة العظيمة، من مثيلات
السيدة زينب، لا تستمد عظمتها من عظمة الرجل الواعي فحسب، بل تستمدها أيضا من حقيقة
كيانها الروحي والجسدي.
يؤسفني أن أقول: إن أنانية الرجل
التي تخشى تفوق المرأة على نحو رفض لعظمة كيانها، وتتجنب الاعتراف بعظمة هذا
الكيان، تتصلب بمركزيتها التي تسوغ عقيدة الذكورة. والحق أن الرجل، حتى ولو اتخذ من
عقيدة الذكورة تبريرا أو تسويغا، يضطر، على نحو التزام واعتراف، إلى الإقرار بعظمة
المرأة عندما تبلغ ذروة سمو كيانها في الأمومة. عندئذ يضطر، بالضرورة، إلى الإقرار
بطهرها والدفاع، على نحو استبعاد، عن كل ما يقلل من شأنها أو يحقرها. وهكذا، أسمح
لنفسي أن أعلن الحقيقة التالية: يعتبر الرجل عظيما عندما يعترف بعظمة المرأة.
ثالثا ـ دراسة التاريخ أو
كتابته من جديد بعقل منفتح:
أود، بادئ ذي بدء، أن أتحدث عن
"التأريخ" بوصفه تدوينا للأحداث، أيا كان نوع هذه الأحداث أولا، وعن "التاريخ"
بوصفه دراسة واعية ومعمقة لهذه الأحداث ثانيا. وفي رأيي يصنف التاريخ في صنفين:
أ ـ التأريخ العلني المبلّغ، وهو
تاريخ الأحداث الجارية.
ب ـ التاريخ غير العلني، وهو
تاريخ العلم والمعرفة والحكمة، وتاريخ المبادئ التي طويت ولم تبلّغ ضمن أحداث
التاريخ أو أسيء فهمها أو شوِّهت.
يشير التأريخ العلني المبلغ إلى
وقائع وأحداث دونها أناس، ندعوهم تأريخيين ذكروا، بالدرجة الأولى، ما رغب في تدوينه
أهل السلطة، أيا كانت هذه السلطة وفي أي بلد كانوا، خاطئة كانت هذه الأحداث أم
مصيبة. ولهذا السبب، يجد الإنسان الواعي، الحكيم والمنطقي وغير المتحيز في دراسة
التاريخ المعلن والمبلّغ قصصا وروايات بُلِّغت إلى الناس على نحو حقائق أكيدة لا
تقبل التعديل أو النقد. وقد أدى التأكيد على واقعيتها إلى تصلبها في عقول الكثيرين
ممن انفعلوا بما ذكر عنها، الأمر الذي جعلهم يتيهون في منعطفاتها وتضاعيفها،
وأصبحوا يدافعون عنها بوصفها حقائق مطلقة لا تقبل الاعتراض أو الدراسة.
من جانب آخر، يعد التاريخ غير
العلني دراسة معمقة لأحداث العالم. والحق أن جانبا من هذه الدراسة يتصل بأفكار
ومبادئ لم تبلغ على نحو علني، وبقيت محفوظة في ذاكرة الروح الإنسانية.
بالإضافة إلى ما ذكرته عن نوعي
التاريخ، أجد نفسي ملزما بإعادة تصنيفه من جديد على النحو التالي:
أ ـ تاريخ الأفراد، حكاما كانوا
أم غير ذلك؛ يشير هذا التاريخ إلى الأحداث بوصفها مؤشرات لأعمالهم وإنجازاتهم.
ب ـ تاريخ العلم والمعرفة
والحكمة والأخلاق: يشير هذا التاريخ إلى مسيرة الروح في الذاكرة الجمعية للعالم.
بقدر ما يكون الصنف أو النوع
الأول ماضيا، يظل هذا الماضي، بالقدر ذاته، مسيطرا على الحاضر على نحو خضوع الحاضر
للماضي. أما تاريخ المعرفة والعلم والأخلاق فإنه حضور دائم، حضور يحمل الماضي
ليطوره إلى المستقبل ليبقى حضورا دائما.
لذا كانت النظريات العلمية
والمبادئ الروحية والأخلاقية والإنسانية والمثالية حضورا يتجاوز التاريخ العلني
المبلغ إلى إنسانية تتألق بالمحبة والوعي والسلام والمعرفة والخير والازدهار
والطمأنينة، وتدعو كل من يتمثلها من الرجال المميزين بالوعي والحكمة والمعرفة
والنساء المميزات بالوعي والحكمة والمعرفة، من مثيلات السيدة زينب، إلى تأسيس
إنسانية تقوم دعائمها على هذه المبادئ، وتعد هذه النظريات المعرفية أو العرفانية
والمبادئ الروحية أنوارا كاشفة انطلق ضياؤها من الماضي ولا تزال تشع بنورها، على
نحو دائم، في الحاضر لتتابع ضياءها إلى المستقبل، وفي هذا المنظور، توفق هذه
النظريات والمبادئ بين الأبعاد الزمانية والمكانية الأرضية الظاهرية لتؤلفها في
حضور واحد.
إذ أبلغ هذا المستوى من البحث،
أسمح لنفسي أن أقول: إن الدراسة المعمقة والواعية لشخصية امرأة عظيمة، نتمثلها في
شخصية السيدة زينب، تحتفظ بحضورها. والحق أن الاحتفاظ بهذا الحضور وصيرورته عبر
التاريخ وديمومته يحمل الماضي المتجدد على الدوام وهو يحافظ على ديناميكية المبادئ
وأنواع المعارف التي تحققت في البعد الزمني، الذي ندعوه الماضي، لتبقى حقيقة في
المستقبل على نحو حضور شامل. وعلى هذا الأساس، لا يكرر الماضي ذاته في الحاضر. هذا
لأن المبادئ تظل حقيقة على نحو حضور دائم. أما أحداث التاريخ الماضية والمعلنة
والمبلغة فإنها تتكرر لسبب هو أن الناس لا يدرسون تلك الأحداث بوعي، ولا يحيون
حضورها في كيانهم ولا يدركون الأخطاء المرتكبة، الأمر الذي يعني تكرار تلك الأحداث،
أي تكرار الأخطاء ذاتها بصورة أو بأخرى.
رابعا ـ الخلاصة – ملامح
شخصية السيدة زينب:
لما كان التأريخ العلني والمبلغ
قد أغفل سير الغالبية العظمى من النساء ممّن أنجزن، عبر مواقفهن الرائعة، تعديلا أو
تطويرا أو تغييرا في بنية المجتمعات، في نطاق القيمة والمعنى، فلأن مركزية الأنا
الذكورية وقفت عائلا وحالت دون ذكر إنجازهن الحضاري والثقافي والإنساني. ولما كنت
أعتقد، بإيمان راسخ، أن المبدأ الأنثوي هو المبدأ الفاعل في استمرارية الوجود
الأرضي، المبدأ الذي يحمل ويعطي ويضحي، فإنه يسعدني، بل ويغبطني أن أتحدث عن ملامح
امرأة عظيمة هي موضوع حديثنا، دون التقيد بالنصوص الحرفية المقيدة والمغلقة. ولما
كنت أجد في شخصية السيدة زينب المرأة المصلحة في مجال الحياة الاجتماعية والسياسية،
والحكيمة والمرشدة للنساء ودعوتهن إلى التعلم والتثقف والتحرر من الجهل، والخطيبة
المفوهة أمام الجماهير، والمحاورة التي تؤكد على تبني قيم الروح المحققة في عالم
الأرض، فإنني أود أن أكمل حديثي بذكر بعض مزاياها الرائعة التالية:
تميزت هذه السيدة الحكيمة
بقدرتها على إيصال القيم السامية لكل إنسان أيا كانت عقيدته أو ديانته أو مبدؤه.
وقد هدفت إلى التأكيد على تحقيق هذه القيم الروحية بديناميكية تتجاوز الآلية
الرتيبة. وشدَّدت، في أحاديثها وحواراتها، على تنشيط الطاقة النفسية والعقلية
الفاعلة باتجاه التغيير في سبيل نبذ الظلم والعمل بموجب العدالة التي هي مبدأ
إنساني. ودعت هذه السيدة العظيمة إلى الأخذ بثقافة الصبر والتحمل والحكمة في سبيل
الإصلاح الاجتماعي المبني على مبادئ الروح. وقد اتصل سعيها لحماية حقوق الإنسان
بمبدأ الحفاظ على كرامة الإنسان. وفي رأيها أن الإصلاح لا يتحقق إلا في بناء شخصية
الإنسان على أساس متين تدعمه الحرية والشعور بالعزة والكرامة.
لقد رأت السيدة زينب في روحانية
المبادئ الإسلامية حضارة منفتحة ومحبة فائقة لجميع الناس تقوم على الحوار البنّاء،
وتتجنب السيطرة والإكراه. وفي هذه الحضارة المنفتحة تلتقي التنوعات الثقافية ويتألق
ضياء الإنسانية المتألقة في حرصها على الاعتراف بالآخر والقبول به. والحق أن هذه
السيدة الراقية والمتسامية في مبادئها كرّست حياتها وهي تسعى جاهدة لتأسيس مجتمع
فاضل وديمقراطي يزدهر في وسط العدالة والكرامة والحرية.