ندوة الإمام الحسن العسكري السنوية
كلمة سماحة الشيخ محمد جواد مالك المفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
قال سيدنا ومولانا رسول الله (ص):
مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى. تبريكات قلبية بهذه
المناسبة المباركة ولادة الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت سلام الله عليهم
أجمعين. ولد الإمام العسكري سنة 232هـ في المدينة المنورة وهاجر من المدينة إلى
سامراء سنة 234هـ مع والده الإمام الهادي وعمره سنتان، وهكذا هم أئمة أهل البيت جهاد
وهجرة وعبادة ومثال في العطاء والأخلاق والتضحية، استلم الخلافة بعد أبيه الإمام
الهادي (ع) وعمره اثنان وعشرون عاما، واستشهد مسموما بأمر المعتمد العباسي وعمره
ثمان وعشرون عاما، وهو أصغر أئمة أهل البيت عمرا بعد الإمام الجواد (ع). وكان اسم
والدته سوسن أو حديثة أو سليل حسب ما يذكره المؤرخون، أما لقبه فيعود إلى سكناه
بلدة عسكر القريبة من سامراء، وهي بلدة أنشأها المعتصم العباسي سنة 221هـ لتكون
مقرا لجيشه الذي بلغ قوامه حوالي 170 ألفا من الأتراك، وهكذا لعبت القومية الخالية
من الإيمان والإسلام أدوارا كبيرة في تاريخ المسلمين، هذا الجيش عاث في بغداد فسادا
بعدما استتب له الأمر، وعجبا لمدينة السلام بغداد، كثيرة أحداثها ودامية قصصها وحق
للشاعر الخطيب الراحل الشيخ الدكتور أحمد الوائلي حين يقول:
بغداد يومك لا يزال كأمســــه
صور على طرفي نقيـض تجمع
يطغى النعيـــم بجانب وبجانب
يطغى الشــــقاق فمرفه وممنّع
ومن الطوى جنب البيادر صـرّع
وبجنـــب زق أبي نؤاس صرّع
ويد تكبـــل وهي مما تفتـدى
ويد تقبـــــل وهي مما يقطع
وغدت تصــــنفنا يد مسمومة
متســــــنن هذا وذا متشيع
يا قاصــــدي قتل الأخوة غيلة
لموا الشـــباك فطيرنا لا ينقع
عاث ذلك الجيش في بغداد فسادا، فاعترضت العوائل الخيّرة موكب الخليفة يوما من
الأيام وقالت له: (إن لم ترحل جيشك من بغداد فسنحاربك)، فسألهم الخليفة: (بمن
تحاربوني؟)، فأجابوه: (سنحاربك بسهام الدعاء)، عنها قال لهم: (لا طاقة لي بهذه
السهام، فسأخرج بجيشي حبا وكرامة)، وفكر منذ تلك الواقعة أن يتخذ موقعا لعسكره
فكانت سر من رأى (سامراء)، وكانت هذه البلدة العسكرية موطنا للإمامين الهادي
والعسكري (ع)، وهنا أستحضر أبياتا لشاعر العقيدة دعبل الخزاعي (رضوان الله تعالى
عليه) حيث يخاطب المعتصم بقوله:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة
وما جاءنا عن ثامن لهم كتــب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة
كرام إذا عدوا وثامنهم كلــــب
وإني لأعلي كلبـــهم عنك رفعة
لأنك ذو ذنب وليس له ذنـــب
ترعرع الإمام العسكري في بيت متواضع اشتراه الإمام الهادي (ع) في سامراء واستشهد
فيه ودفن فيه إلى جوار أبيه، واليوم نرى هذا المكان وقد أصبح منارة كبرى تهدي
للصلاح والإيمان والاستقامة، أما قصور المعتصم والمعتمد وغيرهم من الطغاة فقد أصبحت
في مزبلة التاريخ ولا تذكر إلا بسوء.
أود أن أسلط الضوء في هذا المجلس الكريم وهذه المناسبة البهيجة على قضيتين:
القضية الأولى: أن هم أهل البيت الأول كان الإسلام ومصالح المجتمع المسلم، وهذه
الرسالة امتداد لرسالة النبي الأكرم (ص)، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (ع): (والله
لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة)، وعندما كان الإمام
العسكري (ع) في سجن الصالح بن الحاجب، يروي أبو هاشم الجعفري أنه بينما كانوا في
ذلك السجن وإذا بنداء يطلب الإمام (ع) لأن المعتمد العباسي في ضائقة لا يعرف كيف
يتخلص منها، إذ مرت على العراق حينها فترة من الجفاف فطلب المعتمد أن يقيم الناس
صلاة الاستسقاء، فصلوا في اليوم الأول ولم تنزل قطرة من السماء، وأعادوا الكرة
مرتين ولم يستفيدوا شيئا، فجاء جاثليق النصارى وطلب من المعتمد أن يستسقي في الأيام
المقبلة فأجاز له ذلك، ولما حان الموعد استسقى الجاثليق ومن معه من أتباعه
وملته فانهالت السماء بمطر غزير، وهنا تعجب المسلمون، وفي اليوم التالي تكرر الأمر،
فاهتزت عقائد المسلمين، وفي اليوم الثالث تكرر الأمر مرة أخرى، فكان لزاما على
المعتمد أن يعالج الأمر، لكن أنى له ذلك وهو لا يعرف أسرار الوحي والقرآن؟! فالتجأ
إلى عمود الإسلام وإمام أهل البيت وهو في سجنه وقال له: أدرك أمة جدك من هذه
النازلة العظيمة. فقال له الإمام العسكري (ع): اطلب من القوم أن يخرجوا غدا أيضا.
ثم طلب الإمام من أحد أصحابه أن يختطف ما في يدي الجاثليق حين يرفع يديه بالدعاء
ويأتيه به، وهذا ما تم وأحضر ما في يدي الجاثليق إلى الإمام، فلم يستجب للجاثليق
ولم ينهمر المطر، وأخرج الإمام ذلك الشيء فإذا هو من عظام الأنبياء، فانكشف الأمر
وأذيعت القصة بين المسلمين وأعيدت القلوب إلى مواقعها، فسأل المعتمد الإمام أن يطلب
ما يريد، فقال: لا أريد إلا أن تفرج عن المؤمنين المظلومين المسجونين في تلك الطامورة. فنفذ له المعتمد طلبه. ويجب أن نشير هنا إلى أن الإمام العسكري (ع) كان
يستطيع أن بشتفي لنفسه من المعتمد، لكنه قدّم على ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين.
القضية الثانية: كرامات الأئمة (ع)، فهم أحياء عند ربهم يرزقون، وكراماتهم أثناء
حياتهم وبعدها، وهذا الأمر يتعدى إلى فروع شجرتهم العظيمة، ومن هذه الفروع أبو
الفضل العباس بن علي بن أبي طالب (ع)، والسيد محمد (سبع الدجيل) المدفون في مدينة
(بلد)، وهو الأخ الأكبر للإمام العسكري (ع)، ويقصده المؤمنون في العراق عند نزول
الأمراض المستعصية والطلبات الشديدة، فإذا قصدته وجدت المكان مليئا بالنذور. وهذه
الكرامات يذكرها الله عز وجل في كتابه عندما يذكر نجاة النبي إبراهيم(ع) من النار
وشفاء الأكمه والأبرص على يدي النبي عيسى (ع)، والإنسان المؤمن لا ينكر هذه
الكرامات، وهي موجودة لدى أئمتنا في حياتهم وبعد مماتهم.
نرجو الله عز وجل بحرمة الإمام العسكري وبيوم ميلاده الكريم أن يجعلنا من أتباع الحق
ويوفقنا لأن نكون من الموالين المخلصين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.